هل لاحظت مؤخرًا أنك تقرأ العنوان فقط دون التفاعل مع باقي المحتوى؟ أو أنك تنتقل بين فيديو وآخر دون أن تكمله؟ هذا ليس مجرد تشتت طبيعي، بل ظاهرة رقمية اجتماعية متفاقمة يُطلق عليها علماء النفس اسم "اللامبالاة الذهنية" أو "التشبع التحفيزي" (Cognitive Desensitization).
في هذا المقال، نكشف كيف تغير دماغ الإنسان في العصر الرقمي، ولماذا أصبح إرضاء الجمهور شبه مستحيل، ولماذا أصبح المحتوى مهما بلغ إتقانه لا يُكمل قراءته.
أولًا: عصر "التشبع بالمثيرات" – حين تفقد الأشياء قيمتها بسرعة
في السابق، كانت القصة الجيدة أو الفيلم المميز كفيلين بإثارة اهتمامك لساعات. اليوم، نحن نعيش في زمن الإفراط في المحتوى، حيث يتعرض الفرد إلى أكثر من 10,000 محفز بصري وإعلاني يوميًا، بحسب دراسة نشرتها Forbes:
🔗 المصدر: Forbes – How Many Ads Do We See A Day?
هذا التشبع يصيب الدماغ بما يُعرف بـ**"الإرهاق التحفيزي"**، فيقل تجاوبه تدريجيًا، ويبدأ في طلب محتوى أقوى، أسرع، وأقل عمقًا – مما يجعل من الصعب إرضاء المتلقي.
ثانيًا: علم النفس يُفسّر: الدماغ يعيد تشكيل نفسه بسبب الإنترنت
تشير دراسة منشورة في مجلة Nature Communications إلى أن الاستخدام المفرط للوسائط الرقمية يعيد تشكيل نظام المكافأة في الدماغ، فيجعلنا نميل إلى المثيرات السريعة (Reels – Shorts – TikTok) على حساب المحتوى المتعمق.
🔗 المصدر: Nature - Digital media and reward pathways
النتيجة؟
-
ضعف في التركيز
-
صعوبة الاستمتاع بالمحتوى العميق
-
شعور دائم بالملل حتى من أشياء كانت تثيرنا سابقًا
ثالثًا: لماذا لا يكمل الناس قراءة المقالات اليوم؟
وفقًا لتحليل بيانات Chartbeat، وهي منصة لتحليل تفاعل القراء مع المحتوى، فإن:
-
55% من الزوار يغادرون الصفحة خلال أول 15 ثانية
-
أقل من 30% يقرؤون أكثر من نصف المقال
-
فقط 10% يقرؤون المقال كاملًا
🔗 المصدر: Slate – You Won’t Finish This Article
المشكلة ليست في المقال، بل في الدماغ الذي أصبح يتعامل مع المعلومات مثل الـ"وجبات السريعة".
رابعًا: لماذا أصبح إرضاء الجمهور مهمة شبه مستحيلة؟
الجمهور لم يعد يرضى بسهولة، ليس لأن المحتوى ضعيف، بل لأن:
-
سقف التوقعات ارتفع بشكل غير طبيعي
-
المحتوى أصبح متشابهًا جدًا
-
ثقافة الإشباع الفوري (Instant Gratification) تُقلل من صبر الجمهور على التدرج بالمعلومة
حتى أكبر منشئي المحتوى يعانون من ظاهرة "موت الانبهار"، حيث لم تعد الفيديوهات تنتشر بسهولة كما في السابق إلا إذا احتوت على "حدث صادم أو مثير للجدل".
خامسًا: كيف تؤثر هذه الظاهرة على جودة المحتوى في الإنترنت؟
تأثير مباشر وخطير، ومن أبرز ملامحه:
-
تخلي صانعي المحتوى عن العمق لحساب العناوين الجذابة فقط (Clickbait)
-
الانتقال إلى المحتوى القصير والسريع حتى في مجالات تحتاج شرحًا
-
القارئ يظن أنه مطلع، لكنه في الحقيقة لم يفهم أي شيء
تقول الكاتبة الرقمية ماريا بوبوفا:
"الجمهور اليوم لا يريد أن يفهم، بل يريد أن يشعر بالإثارة"
سادسًا: هل هناك أمل؟ كيف نعيد تدريب عقولنا على التركيز؟
نعم، يمكن إعادة تدريب الدماغ على الاستمتاع بالمحتوى العميق، من خلال:
-
الصيام الرقمي: خذ يومًا دون أي شاشات، وراقب كيف تعود قدرتك على التركيز.
-
قراءة الكتب المطبوعة: القراءة من الورق تنشط مراكز الفهم والاستيعاب في الدماغ.
-
تحديد وقت لاستخدام وسائل التواصل وليس العكس.
-
اختيار محتوى طويل بوعي: كالبودكاست والوثائقيات، بدلًا من المقاطع السريعة.
🔗 المصدر: Harvard Health – Training the brain to focus
سابعًا: من المسؤول؟ هل هو المستخدم أم منصات التواصل؟
المسؤولية مشتركة:
-
المنصات تصمم خوارزميات لتحفيزك على الإدمان والانتباه القصير.
-
المستخدم يستجيب دون وعي، ويطلب جرعة أكبر من المحتوى القصير كل مرة.
الحل لا يكمن في إلقاء اللوم، بل في التوعية الجماعية بخطر هذه السلوكيات الرقمية، خصوصًا لدى الأطفال والمراهقين.
خاتمة: إذا لم يُدهشك شيء، فالمشكلة ليست في العالم
التحفيز المفرط جعل عقولنا تخدّر من الداخل. نحن لا نعاني من نقص المحتوى، بل من التخمة المعرفية بدون هضم فكري.
إذا أردت أن تعود للتركيز، فعليك أن تتوقف عن الركض وراء كل ما يلمع، وتبدأ في إعادة بناء علاقتك مع الفكرة، مع النص، ومع ذاتك.

تعليقات
إرسال تعليق