في عصر السرعة والتكنولوجيا، تتكرر شكاوى جيل بعد جيل حول "سطحية الناس" و"تفاهة المحتوى" و"انحدار الذوق العام". تتردد هذه العبارات في الجلسات العائلية وعلى وسائل التواصل وحتى في الأوساط الأكاديمية. لكن هل فعلاً أصبح الناس سطحيين وتافهين أكثر من السابق؟ أم أن هذا الانطباع مجرد مبالغة ناتجة عن تغير أدوات التعبير وطرق التواصل؟
أولًا: ماذا نقصد بالسطحية والتفاهة؟
قبل أن نحكم على الواقع، علينا أن نُعرّف المفاهيم. "السطحية" تعني التعامل مع الأمور على مستوى سطحي، دون تعمق أو تحليل أو إدراك للجوانب الأعمق. أما "التفاهة"، فهي الانشغال بأمور بسيطة لا قيمة لها أو المبالغة في تقدير مواضيع ترفيهية على حساب القضايا المهمة.
هل الناس فعلًا أصبحوا كذلك؟ لننظر إلى الأدلة:
1. وسائل التواصل الاجتماعي: سلاح ذو حدين
لا شك أن منصات مثل TikTok وInstagram عززت من ثقافة الاستهلاك السريع للمعلومة والترفيه. نحن نعيش اليوم في عالم يُقاس فيه المحتوى بثوانٍ معدودة، والنجاح يعني أن تُضحك أو تُدهش خلال 15 ثانية. وفقًا لدراسة من جامعة كولومبيا 2021، فإن معدل انتباه المستخدم على الإنترنت تقلص بشكل ملحوظ ليصل إلى حوالي 8 ثوانٍ فقط، أقل من معدل انتباه سمكة ذهبية!
لكن هل هذا يعني أننا أصبحنا "تافهين"؟ ليس بالضرورة. بل هذا قد يعكس تغيرًا في طريقة استهلاكنا للمعرفة، لا في قيمتنا الإنسانية. هناك فرق بين أن تكون سريع الاستجابة، وأن تكون غير قادر على التعمق.
2. ثقافة "المؤثرين" والمقارنة المستمرة
يُتهم الجيل الجديد بأنه أصبح مفتونًا بالمظاهر ومهووسًا بالمؤثرين الذين يعرضون نمط حياة مبالغ فيه. البعض يصف هذا الجيل بأنه "فارغ" أو "سطحي". لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا.
وفقًا لمقال منشور في Psychology Today، فإن وسائل التواصل لا تجعلنا سطحيين، بل تدفعنا للمقارنة المستمرة، مما يؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس والشعور بالإحباط. إنها أزمة وعي، لا أزمة تافهة.
3. منصات الترفيه لا تعكس عمق الشعوب
من الشائع أن يُستخدم مثال البرامج التافهة أو المقالب السخيفة كدليل على تدني الذوق العام. لكن هناك جانب آخر لا يُذكر كثيرًا: نسبة كبيرة من الناس تُتابع أيضًا المحتوى العلمي والتعليمي.
منصة مثل YouTube تضم قنوات تعليمية شهيرة مثل Veritasium أو Kurzgesagt، حيث يصل عدد المشاهدات لمقاطع فيديو علمية إلى ملايين. المحتوى الجاد له جمهوره، لكنه فقط أقل ضجيجًا من المحتوى الترفيهي.
لماذا إذًا نشعر أن الناس أكثر سطحية الآن؟
1. الحنين للماضي
عقولنا البشرية تميل دائمًا لتجميل الماضي. حين نتذكر طفولتنا أو مراهقتنا، نعتقد أن ذلك الزمن كان "أكثر جدية" و"أقل تفاهة"، بينما الحقيقة أن لكل زمن تحدياته وتفاهاته.
دراسة في Harvard Business Review تشير إلى أن هذه الظاهرة النفسية – المعروفة بـ"التحيز للماضي" – تجعل الناس يعتقدون أن الأمور كانت أفضل في زمنهم الخاص، فيقللون من شأن الحاضر.
2. صوت التفاهة أعلى
في عصر الإنترنت، كل شخص يمتلك ميكروفونًا. وبالتالي، لم تعد "التفاهة" مقتصرة على حوارات بين الأصدقاء أو المجالس المغلقة. بل أصبحت تبث مباشرة، ويتكرر تداولها عبر المشاركات، مما يخلق انطباعًا وهميًا بأن "الكل أصبح تافهًا"، بينما في الواقع نحن فقط نراها أكثر.
3. الإجهاد المعلوماتي
نحن نعيش في زمن يعاني فيه الإنسان من تشبع معرفي ومعلوماتي هائل. وهذا قد يدفع البعض للبحث عن "محتوى سهل"، ليس لأنه سطحي بطبعه، بل لأنه متعب ذهنيًا من التفكير المستمر. الباحث نيكولاس كار في كتابه "The Shallows" يشرح كيف أن الإنترنت يغيّر طريقة تفكيرنا، ويقلل من قدرتنا على التركيز والتأمل العميق.
إذًا، هل هي مبالغة أم حقيقة؟
الجواب المعقول: كلا الأمرين صحيح بنسب مختلفة. نعم، هناك من اختار أن يعيش حياة خفيفة، بلا عمق. لكن هناك أيضًا من يقرأ ويبحث ويستكشف ويطور نفسه باستمرار. ما تغيّر هو المشهد العام الذي أصبح أكثر تشويشًا، مما يجعل من الصعب التمييز بين التفاهة والمعرفة.
بل إن التفاهة قد تكون ظاهرة صحية في بعض الأحيان. فالهروب إلى المحتوى الخفيف لا يعني الانحدار، بل قد يكون استراحة ذهنية ضرورية في عالم مرهق ومعقد.
كيف نُوازن؟
إذا كنت قلقًا من السطحية العامة، فإليك بعض الخطوات العملية:
-
خصص وقتًا يوميًا لقراءة محتوى عميق: كتاب، مقال علمي، بودكاست مفيد.
-
تابع مؤثرين في مجالات التفكير والفلسفة والعلم، مثل TED Talks.
-
ناقش الأفكار لا الأشخاص: ابتعد عن النميمة والترندات العابرة، وركز على مواضيع تضيف قيمة.
-
شارك المعرفة، ولا تكتفِ بالاستهلاك.
خاتمة
لم يصبح الناس أكثر سطحية بالضرورة، لكنهم أصبحوا أكثر ظهورًا. وصوت التفاهة أصبح أعلى، لكن هذا لا يعني أنها تمثل الأغلبية. علينا أن نُعيد النظر في طريقة استهلاكنا للمحتوى، وألا نُطلق الأحكام جزافًا. فالتفاهة ليست دائمًا خيارًا، وأحيانًا تكون مجرد استجابة لعالم مرهق.
في النهاية، نحن من نختار من نكون: عميقين أو سطحيين، مفكرين أو مقلدين، صناع محتوى هادف أو متلقين سلبيين.
تعليقات
إرسال تعليق